لم يمض القرن الإسلامي الأول حتى كان فتح عظيم من فتوحات شهر رمضان الكريم.
وهو فتح عظيم في التاريخ الإسلامي يكاد يلي في أهميته الفتح الإسلامي لمصر أرض الكنانة بلد الإسلام، إنه فتح الأندلس على يد المقاتل البارع والقائد الفذ طارق بن زياد.
في عهد الدولة الأموية استطاع القائد المسلم موسى بن نصير فتح بلاد المغرب العربي، وبذلك دخل البربر في دين الله وعمل موسى بن نصير على تعليم الناس أمور دينهم وتفقيههم فيه.
وعمل على تدعيم الوجود الإسلامي ببلاد المغرب العربي، فكان له ذلك بخبرته وحنكته والتزامه بشرع الله، فصار البربر من جند الله المجاهدين.
لكن بقيت إحدى مدن المغرب عصية على الفتح الإسلامي وتسمى سبتة، وحاكمها يسمى يوليان وكان من حلفاء ملك الأندلس غيطشة، وكان يأتيه المدد عبر البحر من الأندلس، ثم مات غيطشة وخلفه في ملك الأندلس لذريق.
وحدث أن اغتصب لذريق هذا ابنة يوليان حيث كان قد أرسلها إلى القصر لتتعلم وتتأدب بأدب الملوك، فأقسم يوليان على أن يزيل ملك لذريق، وحاول محاولات عدة لكنه لم يجد غير التحالف مع المسلمين سبيلاً، ورأى موسى بن نصير أن الفرصة سانحة لفتح الأندلس ونشر الإسلام فيها وهي في هذه الحالة من الضعف والفوضى.
وبعث موسى بن نصير إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح هذه البلاد وواصفًا له مكانتها من المسلمين، مبينًا سهولة دخولها بناء على ما أوضحه له يوليان، فأمره الوليد بن عبد الملك بإرسال سرية صغيرة تختبر تلك البلاد؛ كي لا يقع المسلمون في مأزق في تلك البلاد.
فأرسل موسى بن نصير أحد قادة جنده ويسمى طريف بن ملوك، فعبر إلى الأندلس في خمسمائة جندي وكان ذلك في رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة، ونزلوا في بلدة سميت باسم القائد طريف، وشن المسلمون غارات على الساحل غنموا فيها مغانم كثيرة، ثم رجعوا إلى موسى بن نصير بما حصلوا عليه في تلك المعارك.
بعدما رأى موسى بن نصير نتيجة السرية التي قام بها طريف بن ملوك، أخذ يجهز جيشًا كبيرًا وندب على رأسه رجلاً بربريًّا شجاعًا يسمى طارق بن زياد، وأرسله إلى الأندلس على رأس سبعة آلاف مقاتل مسلم.
جُلّهم من البربر الذين حسن إسلامهم والبربر كانوا يتصفون بالقوة والشجاعة والإقدام، وبدأ عبور المسلمين إلى الأندلس ولم يكن لديهم سوى أربع سفن.
فتم العبور على دفعات واختبأ الذين عبروا أولاً حتى عبر الجيش كله، وتجمعوا عند جبل سمِّي بجبل طارق تيمنًا باسم القائد الفاتح طارق بن زياد، واستولى المسلمون على الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، فصارت مواصلات الجيش مع إفريقيا حيث المسلمون كلها آمنة.
لما علم ملك القوط لذريق بخبر المسلمين، أرسل فرقة من جيشه لتهاجم المسلمين لكنها هُزمت وقتل كل جنودها إلا رجل واحد عاد فأخبر لذريق بما رآه من المسلمين في قتالهم، فسار لذريق جنوبًا واستولى على قرطبة وعسكر في سهل البرباط، وكان تعداد جيشه مائة ألف مقاتل تقريبًا.
وسار طارق بن زياد بجيشه متوجها إلى قرطبة وتوقف عند نهر البرباط، وتحسس أخبار لذريق فعرف مكانه وعدد جيشه، فأرسل إلى موسى بن نصير طالبًا المدد، فأرسل له موسى مددًا تعداده خمسة آلاف مقاتل جُلّهم من العرب، فسار تحت قيادة طارق بن زياد حوالي اثني عشر ألفًا من المسلمين.
أما لذريق فلم يكن من بيت الملك في بلاد الأندلس، لكنه لما هلك غيطشة ملك الأندلس ترك أولادًا لم يرضهم أهل الأندلس واضطرب الأمر هناك، فتراضوا على لذريق هذا وكان من قوادهم وفرسانهم فولوه ملكهم.
لكنه خالف تقاليد الملك وفعل أشياء شنيعة؛ لذا لما تلاقى الجيشان كان أبناء ملك الأندلس قد اتفقوا على أن ينهزموا بجنودهم، وقد ظنوا أن المسلمين إنما جاءوا طلبًا للغنائم فقط، ونشبت المعركة وأبلى المسلمون بلاء حسنًا.
على الرغم من أن غالب المسلمين كانوا رجَّالة بلا خيول بينما جنود القوط من الفرسان، واستمرت المعركة ثمانية أيام، وانضم عدد من جيش لذريق إلى المسلمين بغضًا له وتشفيًا فيه، وحدث اضطراب في جيشه، ففرَّ لذريق وفرَّ بقية جيشه وسيوف المسلمين تحصدهم..
ولم يعثر على أي أثر للذريق بعد هذه المعركة حيًّا أو ميتًا، وقد استشهد في هذه المعركة ثلاثة آلاف مسلم، وكانت هذه المعركة العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا في شهر رمضان في العام الثاني والتسعين للهجرة النبوية المباركة.
إن هذه معركة انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا على الكفر وأهله، رغم فارق كبير جدًّا في العدد والعتاد، ولكن الإيمان الصادق والرجال المخلصين والقيادة الواعية المدركة بمآل الأمور والفهم الواضح لهذا الدين العظيم إذا اجتمعوا في جيش، فهذا الجيش لا بد منتصر.
هذا رغم اختلاف الأعراق فكان الجيش مكونًا من العرب والبربر وكان لكل منهم لغة ولكل منهم عادات وتقاليد.
لكن جمعهم الإيمان بالله والأخوة في الله والرغبة الصادقة في نشر الإسلام في كل بلاد الأرض؛ لكي لا يدَّعِي المدعون والذين ينادون بالقومية والوطنية أن الدين لا ينفع أن يكون جامعًا للناس تحت لوائه، بل يقصرون ذلك على اللغة والعرق فقط.
بعد هذه المعركة توجه طارق بن زياد بجيشه إلى مدينة شذونة فحاصرها حتى فتحها (ويقال إن الذي فتح شذونة هو موسى بن نصير)، ثم توجه طارق إلى مدينة استجة وفيها فلول جيش لذريق فقاتلهم قتالاً شديدًا حتى فتح الله على المسلمين بالنصر وأسر طارق حاكمها وصالحهم على الجزية.
بعد ذلك رأى طارق أن جيشه قد كثر عدده؛ بسبب عبور كثير من أهل المغرب وانضمامهم للجيش، فعمل على تقسيم الجيش إلى فرق عدة، وكلف كل فرقة بفتح مدينة من المدن الأندلسية، فبعث مغيثًا الرومي مولى الوليد بن عبد الملك إلى قرطبة في سبعمائة فارس ليس معهم راجلٌ واحد.
حيث لم يبق من المسلمين راجلٌ إلا ركب من كثرة غنائم المسلمين، وبعث فرقًا أخرى إلى مدن رية ومالقة وغرناطة، أما هو فقد توجه بالجزء الأكبر من الجيش إلى مدينة طليطلة.
أما مغيث فقد فتح الله عليه قرطبة وملكها وفر منها مقاتلو القوط، وكذلك الجيش الذي توجه إلى رية فتح الله عليه وانتصر على أهلها من القوط، ثم فتحت غرناطة وكذلك فتحوا أوريولة بصلح بين المسلمين وقائد القوط فيها.
وكان اسمه تدمير فسميت المدينة باسمه. وهكذا توالت الفتوحات في بلاد الأندلس، ثم عبر موسى بن نصير ففتح مدنًا كثيرة أيضًا، كان من أشهرها مدينة إشبيلية وهي آخر المدن الأندلسية التي خرج منها الإسلام.
هكذا فتحت الأندلس في القرن الأول الميلادي، فتحت بدماء الشهداء الأبرار، ونقل المسلمون بلاد الأندلس من التخلف والجهل إلى نور العلم وحضارة الإسلام، فصارت الأندلس رمزًا لحضارة الإسلام وللمكانة التي وصل إليها المسلمون من العلم والتقدم، في ذات الوقت الذي كانت مدن أوربا في ظلام دامس من تخلف وجهل.
ونحن إذ نتحدث عن الأندلس يجب أن نذكر أمتنا أن الإسلام بقي في الأندلس بضع قرون حتى وهن المسلمون وضعفوا وتشتتت مدنهم وصار لكل مدينة حاكما، فقام الفرنجة الصليبيون بقتالهم وتوالت هزائم المسلمين حتى كانت آخر المعارك هي معركة أشبيلية وهزم المسلمون فيها شر هزيمة.
وهكذا خرج الإسلام من الأندلس، وصارت الأندلس اليوم حليفا مهما لأقوى البغي والطغيان الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وشاركت في تدمير بلاد إسلامية كثيرة أهمها العراق وأفغانستان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
المراجع:
- من معارك المسلمين في رمضان للعبيدي.
- المكتبة الأندلسية- أخبار مجموعة لإبراهيم الأبياري.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- الكامل في التاريخ لابن الأثير.
- المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي.
- الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب.
- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري.
الكاتب: مجدي داود
المصدر: شبكة الألوكة